النزاع إذ يكون في كل مكان

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
13/12/2009 06:00 AM
GMT



النزاع وحل النزاعات قديمان قدم البشرية. في الذاكرة العربية الغابرة، ثمة داحس والغبراء، وفي المعاصرة، تبدو النزاعات في كل مكان. ففي فلسطين دولتان اهليتان تتنازعان على الهيمنة، من دون وجود تنوع قومي، او انقسام ديني - مذهبي.
وفي اليمن، تدور حرب ضروس نابعة من انقسام قبلي – مذهبي - ايديولوجي. وفي افغانستان العالم كله يحشر أنفه في معركة لا احد يدري اين وكيف ستؤول. وبالطبع فإن حال العراق او السودان في النزاع لا تسر أحداً.
على رغم قدم النزاعات، فإن نظرية حل النزاع جديدة، كما ان تدريسها في الجامعات كفرع من العلوم الاجتماعية، اكثر جدة. وتعنى الامم المتحدة، هيئة السلم الاممية هذه، بقضايا النزاع نظرية وتطبيقاً، فهي المكلفة (نظرياً) بحماية سلام العالم. وعملياتها لا حصر لها من: بناء السلام، الى حفظ السلام. ونظمت الاسكوا قبل ايام سمينارا مفيداً في بيروت للخبراء لمناقشة سياسات «بناء السلام» و «منع النزاع» في منطقة محددة هي «غرب آسيا»، اي المشرق العربي وجواره.
النقاش في مثل هذه الملتقيات مثير دوماً وفيه بعض مفاجآت. فأولاً، على رغم الوضوح الظاهري، فإن كلمة النزاع تبدو ملتبسة حقاً، فهي تغطي حروباً قومية (بين دول) وأهلية (بين جماعات في دولة قومية واحدة). كما تغطي اعمال عنف شتى، من الاغتيالات، الى السيارات المفخخة، الى التهديد بالسلاح. وتتجاوز العنف الى نزاعات قانونية او دستورية او ثقافية... الخ.
الدولة في نظريات النزاع عامل اساس في التحليل، فهناك الدولة القوية مقابل الدولة الضعيفة، ويقاس ضعف (او قوة) الدولة بقدرتها على تنظيم العنف (الجيش)، وقدرتها على تمويل وظائفها (الاقتصاد) وقدرتها على كسب الرضا الاجتماعي (الشرعية، المشاركة، الخ)، وتمكن اضافة معايير اخرى لقياس درجة حرارة الجسم السياسي، وتقدير مدى عافيته.
لكن نظرية الدولة القوية/ الدولة الضعيفة التي استخدمت في لقاء الاسكوا هي موضع نقد شديد من اطراف عدة. لعل ابرز ناقد عربي هو البروفسور المصري الراحل نزيه الايوبي (في كتابه: «تضخيم الدولة العربية» Overstating the Arab State).
فهو يميز بين الدولة «الشرسة» والدولة القوية، ويرى ان جل الدول العربية تنتمي الى الفئة الشرسة لجهة قواها الامنية، وإمكاناتها المالية المستقلة، فهي قادرة على سحق الخصوم... الخ. لكنها، في الآن ذاته عاجزة عن الهندسة الاجتماعية، او عاجزة مثلاً عن جمع الضرائب، او فرض سلطة القانون في كل زوايا البلاد (بسبب مقاومة القبائل مثلاً، الخ). بتعبير آخر الدولة الشرسة هي دولة قوية وضعيفة في آن.
اعتراض آخر على هذه النظرية هو وجود حالات نزاع ناشئة عن غياب الدولة، او الحاجة الى تأسيس دولة، فتصبح الدولة الغائب المنتظر، لا الاساس القائم للبحث فيه او حوله.
جانب آخر من نظرية النزاع يتصل بجذوره. ثمة النزعة الاقتصادية التي تركز على الصراع حول توزيع السلطة السياسية، وثمة النزعة الثقافية - السوسيولوجية التي توسع اطر النزاع خارج الحقلين الاولين، لتشمل العوامل المجتمعية.
وعلى رغم أحادية كل مقاربة، يبدو ان الميل العام يتجه الى نوع من تركيب. لكن المشكلة الاكبر ان الاطار التاريخي العام لهذه المقاربات غائب، او بالاحرى مهمل. فالدولة المركزية الحديثة، مثلاً، يافعة لا تزال، فباستثناء مصر وهي الاقدم، والعراق (المستقل منذ 1921)، فإن جل الدول المركزية الاخرى ولد في النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتالي فإن هذه الدول تفتقر الى العمق التاريخي، وتواجه قوة التقاليد التاريخية ما قبل الحديثة.
زد على ذلك ان نظرية النزاع تغفل مسألة مهمة هي الآتية:
يتحدث علماء السياسة والاجتماع عن بناء الدولة وبناء الامة باعتبار هذين المفهومين مترادفين، اي يقومان على التطابق العام في المعنى والمبنى.
بناء الدولة يتعلق ببناء مؤسسات الحكم: ادارة - محاكم - جيش، ورموزه: العملة، العلم، اللغة الرسمية، الخ. السؤال: من يتولى الادارة، ومن يندرج في الجيش، اي من يمسك بمقاليد تقرير السياسة، واتخاذ القرار، يبقى قائماً.
في الدول ذات التجانس الثقافي - الاجتماعي، اي التجانس القومي، لا فرق بين «بناء الدولة» و «بناء الامة»، فهما متطابقان. لكن الحال ليست كذلك في الامم المتعددة الإثنيات والاديان والمذاهب. وهذا الافتراق بين العمليتين يزداد حدة اذا كانت الهويات الإثنية والدينية قائمة، اي مسيسة. ها هنا ينفصل وجه «بناء الدولة» عن وجه «بناء الامة».
ولا بد لبناء الامة من ان يعتمد المشاركة في البنى السياسية، وزارة وإدارة، برلماناً وقضاء، وهذه المشاركة شرط مسبق لتوزيع الموارد، خصوصاً في الدول الريعية، فإن انغلق «بناء الدولة» على هوية محددة دون غيرها، على العسكر مثلاً، في حقبة الانقلابات، او على اسرة – قبلية في زمن الحزب الواحد، او على جماعة إثنية واحدة (العرب دون الكرد) او على جماعة جهوية او دينية (السنّة دون الشيعة او العكس)، اختلت عمليات بناء الامة. فاحتكار السلطة او انغلاقها يفضي الى احتكار الموارد الاوسع.
والنزاع، كمفهوم، ليس سالباً في كل الاحوال. فهناك نزاعـــات مفيـــدة، دستورية، او سياسية، تذكي السجال، وتفتح ميادين غير مسبوقة للتفكير. وفض النزاعات امر غريب. فهناك وسائل تفض بعض النزاعات بسرعة، لكنها تترك الاسباب الجوهرية قائمة، فيندلع نزاع اكبر في المستقبل. وهناك وسائل تذكي النزاعات على المدى القصير، اي تزيدها حدة، لكنها توصل في المدى البعيد، الى حلول مستقرة.
لا ادري سبب الخشية الرسمية من كلمة «النزاع» عند كل الحكومات العربية، وغير العربية. الخبراء يتحدثون بأدب جم عن خطوط تصدع، والرسميون ينكرون، والباحثون يتحدثون عن اختلالات بسبب انتهاكات قانونية، والرسميون يتحدثون عن وجود الخروقات في كل مكان.
يبدو نقاش الخبير مع السياسي اقرب الى حوار الطرشان، لغتين، مقاربتين، وهدفين، لا جامع بينهما. الاول يريد تحديد المشاكل بدقة، والثاني يريد انكارها لا غير.
وعلى رغم عدم وجود مندوب رسمي عراقي، فإن المواقف الرسمية التي تصدر منذ شهرين وأكثر تختزل العنف الارهابي المتصاعد الى مشكلة امنية صرفة، سقطت من جرائها بعض الرؤوس في الجهاز الامني - العسكري. المشكلة اكبر. وصنّاع القرار في طول العالم العربي وعرضه، لا في العراق وحده، بحاجة الى قدر كبير من التواضع، لأجل الخروج من قوقعة «المؤامرة» الى رحاب نظرة مركبة، متعددة الأبعاد.